مهلاً لأخبركم عن قصة حذاء منسي على أطرافِ الزمن . كثيرون من اعتقدوا بأنهم يعرفونَني وأنا ايضاً ظننتُ لسنواتٍ مضت من عمري بأنني أعرفُ نفسي . في الحقيقةِ عشتُ معظم حياتي ما بينَ الواقع والخيال أبحثُ عن ذاتي في طيّاتِ قناعاتي ،مبادئي ومعتقداتي وما زلتُ حتى اليوم ضائع في أسرارِ هذا الكون والمتاهاتِ . دعوني أروي لكم ما حصلَ معي منذُ فترة من الزمن .
بعدَ أن تكاثرتْ علي الهموم وشوَشتْ أفكاري التوقعات والتحاليل السياسية على محطاتِ التلفزة ومواقع التواصل الإجتماعي عن الأزماتِ المتلاحقة والإنهيار الحاصل في هذهِ المرحلةِ الصعبةْ… غلبني الضجر ونالَ مني التعب بعد صراعٍ مرير وصيفٍ طويل لتأمين الحاجات الأساسية الملحَّة ؛ وما زادَ الهمّ فوقَ الغمْ سوى خلافٍ وقعَ ما بيني وبينَ حبيبتي وأميرتي على جنس الجن ولونه ، وبتُ عالقاً ما بينَ اليقظة والحلم، ثمَ وجدتُ نفسي خارجاً أسيرُ على غيرِ هُدى من شدةِ الحردِ والضياع ، هرباً من الوباءِ المشؤم مدجدجٌ بما املكُ من أسلحةٍ لمجابهةِ الكورونا والإنهيار…
الكمامة ، القفازات، ومعقمُ اليدين برائحةِ النعناع مستقويا بايماني بالله وبمسبحةِ العذراء مريم حولَ عُنقي مصنوعةٌ من خشبِ الوردِ المعطر بعطرٍ سماوي؛ وما زلتُ اجهلُ
إن كان ذاك العطر يعبقُ من خشبِ الوردِ أم من أناملِ أميرتي صاحبةُ الهدية!!! وبعد أن وصلتُ إلى مفترقِ طرقٍ لا يبعد سوى مئاتِ الأمتارِ عن منزلي دفعتني حشريتي أن أدخلَ بذاكَ الطريق الترابي الضيق وقد أصبحَ من أشباه الطرقات بعد أن نبتت وتكاثرتْ الأعشابُ البريةُ على جانبيهِ وانتصبتْ كفصيلةٍ من العسكرِ التركي تؤدي التحية لكلِ من تجرأ ودخل…
ومما أخاف وماذا سأخسر؟ وقد عتقّتُ الكتابةَ والشعر واعتزلتُ العشق والغرام؛ شددتُ همتي وعزيمتي، تسارعت خطواتي حتى وصلت إلى خرابٍ قديم نهاية الطريق؛ وقد نقشتْ حباتُ المطر على جدرانهِ لوحات مزخرفة وتسابقتْ العصافير لبناءِ اعشاشها على شرفاتهِ ؛ تراصفتْ الاعشابُ والازهارُ البرية الملونة بين مداميك حجارته الضخمة العتيقة بخطوط عامودية وافقية لتشكل اروع اللوحات الفنية…
جلستُ على مقعدٍ قديم من حجرٍ مقصوب يقابلني بابٌ مخلوع تعلوهُ عتبةٌ ضخمةٌ منحوتٌ عليها رسمُ الصليب وكلمة يا رب؛ ولا يسعني إلا التوقف والتأمل بتلك العتبة المتواضعة والمنخفضة بشكل واضح مقارنةً مع البناء الحديث وقد كانت تقفُ حاجزاً ومانعاً لدخولِ العسكر التركي على صهواتِ جيادِهم للتنكيلِ بالعوائل الآمنة …
من خلالِ ذلكَ البابِ العتيق المكسور تسللتْ أشعةُ الشمس الى الداخلِ كخيوطٍ ذهبية تربطُ ما بين الحاضر والماضي البعيد؛ انتصبتُ وافقاً ومشيتُ متوجهاً الى الداخلِ من دونِ أن أشيحَ بنظري عن حذاءٍ عتيقٍ منسي في إحدى زوايا ذاك الخرابِ ؛ ولاحظتُ من النظرةِ الأولى وبوضوح المفارقة الكبيرة من حيث الحجم ما بينه وبين الأحذية العصرية… اقتربتُ رويداً رويداً وبهدؤ وكأنني حريصٌ ألا أُوقظهُ من ثباتهِ العميق؛ اقتربتُ متأملاً متفحصاً الجروح والكدمات التي اصابتهُ وقد بدى واضحاً وجلياً خضوعه لعملياتِ جراحية لانقاذه من بعض الحوادث التي تعرض لها على مر السنين؛
الفردتان مصنوعتان من الجلدِ السميك بلونِ ترابِ الارض ، نعالهُ مفصّلة من بقايا اطارٍ عتيق؛ لكلِ فردةٍ شكلها الخاص وملامحها الخاصة ؛ ترافقا على مدى سنواتٍ، تشاركا بالأعمالِ الشاقة ، النزهاتِ الجميلة واوقاتِ الاستراحة؛ يتبعادان عند الخصام ويتقاربان وقت الرضى؛ …
تعجبتُ من نفسي بعد ان خطرَ لي ان انتعلهُ ؛ وقفتُ مبتسماً متردداً خلعت حذائي الرياضي وانتعلتهُ وما أن وطئت قدمي نعاله حتى تقمصّتُ برجل قُروي قويُ البنية عريضُ المنكبين؛ يرتدي شروال اسود وعلى راسهِ لبادٌ من الصوفِ؛ يُمسِكُ بيدهِ المحراث ، يسوقُ ثورين ضخمين ويصيحُ بهما بكلماتٍ غير مفهومة؛ بقيتُ على هذه الحال حتى سمعتُ صوت امراة تناديني؛ التفتُ لاجدَ خلفي اميرتي تعمل على جمعِ البطاط من بينِ اثلامِ الترابِ الأسمر…
وتقول: اسم الله، اسم الله السني الموسم حرزان…
منذُ صغرنا تنطبعُ بمخيلتنا صوراً وتترسخُ بأفكارنا معتقداتاً قد تكون خاطئة عن ملاكنا الحارس فلكُلٍّ منا ملاكاً يحرسه ، أما أنا لي مع ملاكي قصةً مختلفة . حينما التقيتُ به للمرة الأولى حسبتهُ شخصاً تقليدياً بدا لطيف ، حَسنُ المظهر يهوى العلاقات الإجتماعية وحسبتُ نفسي رقماً إضافياً في رصيده الغني بأشخاصٍ وفعاليات كان قد عرفهم من قبل أن يعرفني برعوا في مجال خدمة الشأن العام وما أكثرهم ، فقد خدعني بحسنِ استقباله ،ببسمته العريضة ومظهره الأنيق وأخفى عني حقيقة أمره خلف ضباب المظاهر البشرية البسيطة ، رافقني على دروب الحياة لسنواتٍ طويلة ،تشاركنا وعائلاتنا في مناسبات سعيدة وعديدة ، كان لي خيرُ رفيق وصديق .أغرقني أكثر وأكثر في بحرِ إهتمامه ومحبته ،تضحياته وخدماته اللامتناهية حتى تغيَّرَ مجرى حياتي إلى الأفضل ورست سفني المثقلة بأنواعِ الهموم ومتطلبات الحياة على برِّ الأمانِ والطمأنينة ، أوهمني بأنه مجرد أخٍ وصديق وانسحق تحتَ رحى طواحين الطيبة والتواضع إلى أن شاءَ القدر أن يفضح أمره ويكشف سرّهُ يُسقطُ عن وجههُ قناعَ الإنسان ويخلعُ عنهُ رداء البشر ، فقد حضرَ أمامي وعلى غفلةٍ من ذاتهِ في صبيحةِ يومٍ من أيامي الصعبة على شكلِ ملاك وقد غفلَ عنه أن يتقمصَ بشخصية البشر حيث كنتُ على وشك الخضوع لعمليةٍ جراحية،كان على علمٍ ودِراية عن وضعي الصحي وحالتي الحرجة أكثر مما كنتُ أعرفُ عن ذاتي حينها، أطلَّ علي بطلته البهيه ،خاطبني متمنياً لي صباحاً جميلاً وأخبرني إنه سيبقى معي في كُلِّ ظروفي ويرافقني في رحلتي حتى النهاية،أزاح عن صدري كابوس الخوف والقلق وزرع في قلبي زهور الفرح والطمأنينة. إنه هو صديقي وملاكي الحارس
يبقىَ السحرُ وهمٌ إلى أن نقعَ فيهِ!! .
كنتُ لا أزالُ في مرحلةِ النقاهةِ والشفاءِ من ألمِ جراحٍ أصابتْ قلبي وانهكت روحي في معركةٍ غير متكافئة ما بينَ مشاعري الرقيقةَ وقسوةِ الزمن… . جلستُ على ذلكَ الكُرسي في منطقةٍ اعتبرتها مُحايدةْ بعيداً عن سهامِ آلهة الحبِّ التي تتطاير من نظراتِ حسناواتٍ تكادُ ان تتفوقَ بسحرِها وجمالها على جواري السلطان سليمان…. التجأتُ الى تلكَ الزاويةِ هرباً من مراجعاتِ الناسِ وحشريّة البشر ، متكأً على همومي استعطفُ الزمن علّني أستطيعُ أن استقرضَ منه بعضاً من الوقتِ المستقطعِ لاستريحُ استراحة المحارب ريثما تلتئمُ جراحي وتهدأ خواطري… . وإذ بلمعانٍ قويٍ يشبهُ لمعانُ البرق يخترقُ عيناي . صمتٌ وسكونٌ عميق يلفُ المكان، للحظاتٍ تخالُ نفسكَ خارجَ كوكبِ الأرض، احساسٌ بدفئٍ غريب يجري في عروقي وشعورٌ بسلامٍ داخلي لا يوصف ثمَ سمعتُ صدى لطلقاتٍ نارية أخالُها أصابتني….. ذلك بعد ان وجدت نفسي مستلقياً على أرضِ الغرفة مضرجاً بدمائي وعينايَ شاخصةٌ نحوَ سقفِ الغرفةِ تحدقُ في نورٍ يتلاشى مع كلِ لحظةٍ حتى انطفاءَ …!! عجباً ما الذي حصل?! أَرى نفسي من فوق.!؟ يا إلهي هل انا ميت!؟ عمَّت الفوضى داخل الغرفة ودبَّ الرعبُ في قلوب الحاضرين، كنتُ أرى ذلك من عُلياي حتى تقدمتْ إحدى السيدات من بينِ الجموعِ بخطواتٍ واثقة نحو جسدي المصاب، جثت على ركبتيها أمسكتْ شعرَها بكلتا يديها ورفعته إلى أعلى راسها وقد تشكلَ تاجاً على رأسِ اميرةٍ بعد ان ربطته بطريقتها المعهودة كاشفةً بذلك عن مدى وروعةِ الجمالِ والأغراءِ في عنقها العاجي . وَضَعتْ يدها على الجرحِ النازف وضغطت برفقٍ وحنان ، ثمَ انحنت براسها فوق وجهي حتى شَعرتُ بحرارة شفتيها الورديتين على أطرافِ اذني وهَمَستْ (بحبك) ارتعشت اطرافي وخفق قلبي 😍😂😂😂…!! . يتبع
حينما أصدرتي حكمكِ يا سيدتي ،غرقت ذاتي في بحرِ الدهشة وأخذتني رياح العجب الى ساحات الصراع حيثُ تمزقت مشاعري بمخالب احكامكِ الجائرة وتطايرت الى سماوات الأمان تختبئ بقطن السحاب الأبيض هرباً من سهام غدركِ وطعنات افترآتكِ الظالمة ،إغتسلت بمياه الغفران والمسامحة لعلّها تبرأ من جراحها وتُشفى من آلامها …لا ولن أقف في قفص الاتهام لأدافع عن نفسى وأدَّعي البرأة ولن أعترف بذنبٍ ما ارتكبته إلا بخيالكِ ، سأحرمكِ من لذةِ الانتقام وأترككِ في بحر الحيرة تتقاذفكِ أمواج الشكِّ لترسوا بكِ على شطآن أوهامك تستظلين بأشجار القلق تحت أغصان نبتت براعمها على ألفِ سؤالٍ وسؤال، تبداءُ معكِ كلما غفت عيناكِ بسؤالٍ بسيط ثم يتبعه آخر إلى ما لا نهاية : من أنتِ ؟ ما اسمكِ ؟ كم عمركِ ؟ تُجيبينَ مرغمةً مع كل سؤال حتى تفرغين من الأجوبة فيصيبكِ الأرق ويتملكُ بكِ الجنون ،تسألين نفسك وتتساءلين لعلك تحصلين على أجوبةٍ تعيدين بها التوازن إلى عقلك وإدراكك : أين نحنُ من العدلِ والعدالة لو ارتفعنا بأنفسنا على أجنحة الشك وعلى غفلةٍ من الحقيقة إلى ما فوق المنطق وتربعنا على عرش الحَكَمِ والحاكم ، اختصرنا دور المتهم والشاهد بأنفسنا وحجبنا آرائهم خلف ضباب اللامبالاة ،حللنا واستنتجنا وأصدرنا أحكاماً مبرمة بحقهم غير قابلة للأستئناف ؟ ثم تنظري فلا تسمعين سوى صدى صوتكِ يتردد في اعماق المجهول
لا تتعبي نفسكِ بالبحثِ عني بين أسطر كتاباتي ولا تحللي شخصيتي فأنا صدقاً لا أعرف ذاتي ولا تحاولي أن تغوصي بأعماقي ،أخشى عليكِ من الغرقِ لو تذوقتي من خمرة خواطري وقرأتي من غرائب فلسفاتي فأنا يا صغيرتي ثائرٌ ، متمردٌ ، مجنونٌ بطبعي أسكنُ ما بين نار حبكِ ونعيمِ جناتك ولكن لو وُجدَ من بين رجال الكون من يحبك أكثر مني يا أميرةَ قلبي وتوأم روحي ،سأغتالُ مشاعري على أقدامِ عرشكِ وأسحقُ قلبي تحت اقدام الخيبة والندم،كنتُ سأعتزلُ العشق والغرام وأنكرُ ذاتي أمام خالقها وتنفجر روجي قهرا وألماً وتضمحل من وجهِ الوجود تتطاير ذرات في فضاءٍ لامتناهٍ لأزمنةٍ لا تنتهي
لا شكَّ إنَّ الكِتابةَ عن الموت تتطلب الجرأة ولكن القرأة عن موضوع الموت قد يتطلب أكثر من الجرأة.ما سرُّ تلكَ الكلمة عندما تقع على مسامعنا نحن البشر تقشعرُّ لها أبداننا وترتعدُ فرائصنا من شدّةِ الخوف والهلع ، نجدُ أنفسنا عاجزين خاضعين وتظهر بمخيلتنا آلاف الوجوه لأشكالِ الموت وألوانه،نستذكره ونلمح خياله بجناحيه السوداوين يتوارى خلف أفق يشبه بألوانه ألوان الشمس عند ساعة الغسق خاطفاً منّا الأحباء والأصدقاء على غفلة من الزمن ثم يغيب ويختفي تحت ظلمة المجهول ليطلّ علينا مجدداً من خلف جبال الواقع الأليم يختار من حان أجله ويحمله إلى عالم المجهول في دوامةٍ لا تنتهي، فنستسلم أمام عظمته وجبروته نسترسل في بُكاءٍ عميق على أنفسنا وعلى من نُحب
ونرتمي بأحضانه هرباً وتحرراً من ذواتنا البشرية الضعيفة .أما أنا سأخبركم عن موتي عن تجربتي مع الموت . غلبتني مشاعر الخوف والقلق حينما سمعت من الطبيب عن سؤ حالي وانسداد شرياني ووجدت ذاتي البشرية مرميةٌ على طاولةٍ في غرفة العمليات الجراحية مغطَّاةٌ بشراشفٍ بيضاء تفوح منها رائحة لأدوية تعقيم لم أعرفها من قبل . على مقربةٍ مني كانت تقف إحدى الممرضات تعمل على تحضير ما يلزم من معدات طبيّة خاصة لعمليات القسطلة ، تخليتُ عن كبريائي وعن شخصيّة عنترة ، ترجلتُ عن صهوة حصاني العربي بعد أن نال مني الخوف ،نزعتُ عن وجهي قناع القسوة والامبالاة وخلعت عني رداء الشجاعة وقلتُ لها بصوت فيه من الأستعطاف والتمني ما يذيب قلب الحجر ، بالله عليكِ يا ملاكي ألا تتكرمي علي بحقنة من المهدىء تُبعد عني توتري وتُعيدني إلى ذاتي ؟ أبتسمت وقالت: لا تقلق يا سيدي لك ما تريد ، وتابعت مبتسمة، بالحقيقة كنتُ على وشك الأنتهاء من حقنها في الأنابيب المتصلة بإحدى عروقك فهي توازي ما لا يقل عن نصف زجاجةً من الويسكي الفاخر . ما أن مرت لحظات حتى وقعتُ تحت تأثير المخدر تلاشى توتري وهدأت ذاتي وبتُّ أرى أطباء الجراحة كأشباه ألآلهة يتمشون في أروقة المستشفى يصنعون المعجزات يستقرضون السنين من الخالق القدير ويضيفونها على أعمار مرضاهم أوقاتاً إضافية تُصرف على شراء السعادة والفرح. جلس الطبيب الجرّاح على كرسي خاص كان قد وُضعَ على جانبي الأيسر وبعد أن أدخل منظار خاص في شرياني الأساسي توقف لبرهةٍ وجحظت عيناه متأملاً في شاشة كبيرة يستطلع النتيجة ويحلل سبب الأنسداد محتارٌ بأمري كوني لا أدمن التدخين وأتَّبعُ نظام غذائي صحي ثم وقف وقال: إنَ أحد شرايينك قد تعرض للأنسداد بنسبة مئة بالمئة وهنالكَ شريانٌ آخر مسدود بنسبة سبعون بالمئة وسنعمل على معالجتهما في الحال واستدرك الحمد لله إننا استطعنا أن نكتشف الأمر قبل فوات الأوان لأنَّ حالتكَ نادرة وكان من الممكن أن تؤدي بكَ إلى موتٍ مفاجيء لا سمحَ الله ثم تابعَ ولكن ما يحيرني حتى اللحظة أسباب الأنسداد وهو لا يدرك بأنَ أنواع الورود وأشكالها قد نبتت على آثار قدميكِ العاريتين حيث كنتِ ترقصين في مدخل شرياني يا اميرة قلبي حبي وسبب جنوني .أما عن الموت فإنَ بعدكِ عني كأنه موتي وقربكِ مني كأنه سنين إضافية في رحلةِ حياتي
لو رغبتي يا سيّدتي أن ترافقيني في رحلةٍ إلى عالمٍ مختلف ومميز ، عالمي الخاص على متنِ سفينةٍ بنيتُها من خشبِ أشجارِ الحب ونسجتُ أشرعتها على نولِ العلم والإيمان من خيوط العصيان والتمرد ، فما عليكِ سوى أن تجلسي في مقعدكِ المميز ولا حاجةً لكِ لأن تشدّي الأحزمة فأنتِ بأمان في عالمٍ أبعدُ من أن تطالكِ سهامُ الأذيَّةِ والإتهام ، سأرفعُ أشرعة خواطري على صواري الأحلام وأطيرُ بكِ إلى حيث لا تتوقعين.
هذا ماقالهُ لها في طريقِ العودة إلى عالم الواقع بعد أن رافقته على غفلةٍ من الزمن برحلة خارج أبعاد الكون والمجرات : لَا تتوقعي أَن تتفتحَ زُهُور الحُبّ الْحَقِيقِيِّ فِي حدائقِ مشاعركِ الرقيقةَ إنْ لَمْ تَكُن بَرِيئَةٌ وَصَادِقَةٌ وتفضحُ بِرَائِحَةِ عطرها الطَّاهِر آثَاماً وخطايا مِنْ سَبَقِهَا مَنْ زَيْفِ مَشَاعِرٍ وَشَهَوَاتٍ تَشَوَّهَت فِي نظراتِ وأفكار مِن التَقُوكِ مِن ذكورٍ لَيْسُوا رجالاً، وَمَا أَكْثَرُهُم . لَا تتأملي وَلَا تَنتَظري فَإِنَّ بَعْضَ الْفُصُول العاطفية قَدْ تَنْتَهِي قَبْلَ أَنْ تَبْدَأَ .ثم أضاف : لَا تقلقي مِنْ الْحَبِّ يَا صغيرتي فَإِن حِبِّي حلمٌ قَد يَتَلَاشَى فِي ايَّةِ لحظةٍ مَع بزوغِ فَجْر الْوَاقِع ، وَقَد يتبدد كَمَا تتبدد الغُيُوم الْبَيْضَاءُ مِنْ سماءِ رَبِيع آتٍ واستطردَ قائلاً : أَمَّا أَنَا يَا أميرتي ، قلقٌ عليكِ مِن ذَاتِيٌّ الثَّانِيَة ، أخافُ أَن تلامسَ يديكِ وتقبلَ وجنتيكِ أن تضم خصركِ الناحل أن تضجع بمضجعكِ الدافيء ، غَضِبَت منهُ بعد أن تَشَوَشَت أفكارها واستوقفت الزمن على حدودِ التمرد والأنصياع الأعمى ، قدمت له استقالتها على طبقٍ من الأوهامِ مُرَصّع بقوانينٍ وأنظمةٍ تشوَّهت على مر الزمن..أستوعَبَ الصدمةَ بصمتٍ وقَبِلَ استقالتها على الفور، وقَوُّلبَ قلبه المذبوحِ درعاً على قياس صدرها يحمي به قلبها الرقيق من سهامِ الغدر لمجتمعٍ ظالم
ما أن وصلوا إلى أرضِ الحقيقة وحطّت بهما المركبة في عالم الواقع سألَتهُ مُستهجنة : بالله عَليكْ، قُلّ لي ما الذي حصل؟ ماذا جرى كي تتخلى عنّي ما بين ساعة وأخرى؟ أبلحظةٍ تتغيرُ المشاعر وتتبدلُ المواقع في القلوب؟ ألم أكن حبيبتكَ ،ملهمتك، أميرة قلبك وطبيبة اخزانك! كيف لكَ أن تتخلّى عني وبهذه السرعة دون أي استفسارٍ او سؤال ! أتراك فقدت الجرأة واعتزلت القتال لأجلِ من تُحب! حتى إنك وقّعّتَ على استقالتي دون أن تنظر بعيني… هكذا قالت بنبرةٍ حزينة فيها ألفِ سؤال على شكلِ عتاب…حينها لم تَكُن تَعْلم أنها تذبح قلبهُ للمرةِ الثانية وتطعن مشاعرهُ بذات الخنجر وهي القاضي والجلاَّد…
هذا ما شاهدتهُ وما سمعتهُ من فَمِ مجنونٌ متيمٌ بحبِّ امرأةً شاءَ القدرُ أن يفرقهما وأصبحت حبيبته زوجة رجلاً آخر بحكم التقاليد لمجتمعاتٍ ظالمة، فنالَ منهُ الشوق وأضناهُ الحنين ،اتخذَ منَ الخمرةِ دواءً يُطفيءُ بها نار الشوق ويخففُ من شدّةِ الألمِ. هكذا عرفتهُ حينما سمعتُ صوتَهُ الصارخ بكلماتٍ ترددت أصداؤها حزناً وألماً في أعماقِ ذاتي…بعد أن أشار بأصبعه نحو تلكَ السيّدة الجميلة ، مشى إليها مترنحاً متعسراً بخطواته وكأنهُ يسعى جاهداً للوصولِ إلى أقدام الآلهة يستجدي منها الرأفةَ والغفران، ثُمَ صاحَ بها قائلاً بعد أن تجاهلته وتابعت سيرها لخطواتٍ قليلة مما استوقفها لاستدراك ما يحصل : يا امرأة،أنتِ يا امرأة أُكلمكِ أنتِ، نعم أنتِ يا من تشبهين حوريات الجنّة أكثر مما تشبهين بني البشر. أُكلمكِ أنتِ يا من تربَّعتي على عرشِ قلبي لسنواتٍ مضت ورقصتي عاريةً على بساطِ الحب والإغراء فأشعلتي بركان الشهواتِ في أعماقِ ذاتي وأيقظتي الصراع ما بين قلبي وعقلي حتى سقط إدراكي في بحرِ الجنون وغرقَ في اغوارِ الشكِ والشبهاتِ فقتلتُ نفسي وخسرتُ ذاتي، كم مرّةٍ أقولُ لكِ أُحبكِ ؟ كم مرة أقولُ لكِ أُحبكِ حتى تؤمنين بحبي فأتخلصُ من قلقي وتختفي آهاتي ! ألم تدركي بعد كم أحببتكِ! نعم أحببتكِ حتى الجنون وكفرتُ بجميع الأديان واتخذتُ من حُبكِ ديناً لي وعبدتكِ انتِ وحدَكِ دونَ سواكِ. أسألكِ للمرةِ الألف بماذا أخطأتُ بحق حبنا حتى أُعاقب بمثلِ هذا العقاب وأتجرعُ من كأسِ العذابِ والألمِ ،ألم تدركي بعد مدى وجعي وحجم معاناتي عندما أراكِ بمخيلتي بين يدي رجلاً غيري وكيفَ تنسحقُ مشاعري الرقيقةَ من شدّةِ الألمِ وتتطايرُ ذراتً في فضاءِ الغيرةِ والأنانية؟ يا من كنتِ زهرة الربيع بصحراءِ عمري ،أنتِ المرأةُ الوحيدة التي استحقّت أن أُناديها بأميرة قلبي عشقي وجنوني… قال هذا وسجدَ أمامها على ركبتيه يستعطفها ويتوسل رِضاها… في تلك اللحظة أحسست وكأن الزمن قد توقف لبرهةٍ ونظرتُ إلى وجهِ تلكَ السيّدة لألمح دمعةً تتدحرجُ على خدِّها ، أشحتُ بنظري عنها متجنباً إحراجها وسمعتُ أُناساً مِن حولي يتهامسون في ما بينهم بكلماتٍ ، دعوه وشأنهُ ، لا تهتموا (حكي مجنون)
لو أردّتُ أن أكتبَ بالأمسِ عنكِ وعني لقلتُ (نحنُ) أما اليوم سأقول انتِ وأنا…! حينَ دخلنَ ملائكة الحب إلى قلبي ونادينَ بأسمكِ لم يسمعنَ سوى صدى أصواتهنَّ تترددُ في فراغِ مشاعري اللامتناهية. فأين نحنُ اليوم من عالمِ الحب يا سيّدتي ،وأينَ هو منا..؟ وهل لعالم الحب وجود أم انه مجرد أوهام..! أتكون قد رست مراكب حبنا على شواطئ جزر الأوهام وعشنا أنتِ وأنا في عالم الكذب والأحلام ؟ ،قد نكون مجرد مجنونين أحمقين اختلطت علينا مشاعرنا وانجرفنا معها إلى ما نصبوا اليه ونحلم به علَّنا نستطيع أن نستعيد ما خسرناه بالماضي من ذاكرة الزمن وإصلاح قلوب قد تحطمت او نبلسم جراح قد تفتقت..! حتماً أنتِ وأنا يا سيدتي من عالمين مختلفين، قد نتشابه في صفاتٍ معينة ونختلف بأخرى. ظننتُ لفترةٍ بأنكِ من عالمي عالم التمرد والعصيان عالم الجنون . لمستكِ، عانقتكِ وسكرتُ من رائحةِ عطركِ بعد أن استنشقته من حدائق جنَّاتكِ وعن سهولِ وهضابِ جسدكِ الآسر… خُيِّلَ إلي لبرهةٍ بانكِ تنحدرين من عائلة الحوريات وتنتمين إلى عالم الجنِّ حيث لذاتي الثانية من الحورياتِ وملكاتِ الجنِّ ما يكفي لاسترضائها في الاوقات الحرجة وبلسمت جراحها من طعنان الغدر والنسيان … ها انتِ اليوم يا سيدتي تعودين من عالمي الخاص إلى ارضِ الواقع عالمكِ انتِ، تخلعينَ عنكِ ثوبَ الحورية البرَّاق وتستبدلينه بعبأة الخضوع والاستلام تقصّينَ ضفائر جدائلها الذهبية بمقص المزاجية وتسرِّحينَ ما تبقَّى من شعركِ بمشط الحيرة ، اراكِ تغتسلينَ من عطرها الآسر بمياه بئرٍ قد تعكَّرَ صفوها بتربة الشكِّ. لماذا تبدلين لونَ عينيكِ بألوانٍ تشبهُ بألوانها عيون البشر.. ؟ اتراكِ قد تعبتي مني ومن لَعِبِ دورَ الحورية ونالَ منكِ الضجر..؟ افهمكِ واعرفُ تمام المعرفة سبب تعبكِ من عالمي الخاص من حبّي ، عشقي وجنوني ، فأنتِ يا سيّدتي لستِ بحوريةٍ ، أنتِ بتأكيد من بني البشر…!
ليسَ مِن عاداتي ولا من شيمي أن اراقبَ الناس، ولكن لفتتني إحدى السيدات بينما كنتُ أنتظرُ دوري في إحدى الدوائر الرسمية لأنجازِ بعض المعاملاتِ الادارية ، كانت تتمشى ذهاباً واياباً بخطواتٍ انيقةٍ، يتدفقُ على كتفيها شعرها الكثيفُ الاسود كأنهُ شلالاٌ من الأغواءِ والاغراءِْ… تحملُ بين يديها قلماً ودفتراً كانت تدوُّنُ عليه كلمات وخواطر تراودها بين الفينةِ والأخرى. ثمَ غادرتْ مسرعةً على حينِ غرة عند مناداتها لأنجاز معاملتها وتركت بجانبي ما كانت تحملُ من اوراقٍ بعد أن استأذنتني… التفتُ إلى تلكََ الاوراق التي وُضعتْ إلى جانبي مكشوفةً بعد أن راودتني مشاعرُ الفضولِ والأحراج وما أن وقع نظري على تلك الرسالة حتى عجزت عن منع نفسي من قرأتها كُتبَ عليها التالي:
إلى حبيبي الغالي
قُبيلَ موعد ارتباطنا بأيامٍ قليلة لا بُدَ لي أن اصارحكَ بعدَ أن خَيرتني ما بين الحياة الزوجية ووظيفتي في خدمة المصلحة العامة..
لا شكَ أنَ مدرستي الأولى زرعتْ بفكري براعم العلمِ والمعرفةْ ونثرتْ بقلبي بذورَ الأيمانِ والمحبةْ ، كلُّ صفحةٍ قرأتها في بحرِ العلمِ والثقافة كانت مدماكاً لبناءِ منصةٍ انطلقتُ منها الى عالمِ الواقعِ والتحدّي…حيثُ مشيتُ على خُطىَ من سبقني من روُّادِ الفكرِ وعشّاق التطور وما أكثرهم في ارضِنا مقلعُ العباقرةِ والأنبياء ، ثمَ ارتشفتُ من نبعِ الثقافةِ والأنفتاح ما يكفي كي لا أغرق في مستنقعِ الجهلِ والتقوقع… نذرتُ نفسي لخدمةِ المجتع بما أملك من قدراتٍ وخبراتٍ متواضعة وما زلتُ حتى اليوم أقرأ في وجوهِ من أقابلهم وأتعلم من آثار ما تركت تجاربهم في غِمارِ الحياة الصعبة .
أخشى اليوم أن أقرأ في ملامح وجهك ما يمنعني عن تحقيق حلمي وتطوير ذاتي….
التوقيع : المرأة المتحررة